24 ساعة
تحت الاضواء الكاشفة
أراء وكتاب
بانوراما
الجزائر – فرنسا: الهذيان يصيب النظام العسكري بسبب عزلته الدولية
تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية على وقع توترات متزايدة في الآونة الأخيرة، حيث يبدو أن النظام الجزائري قد فقد البوصلة في مواجهة عزلة دولية متنامية. آخر فصول هذه التوترات تمثلت في استدعاء الجزائر لسفير فرنسا لديها بسبب مزاعم تفيد بتورط الاستخبارات الفرنسية في « مؤامرات لزعزعة استقرار البلاد »، حسب ادعاء حكام قصر المرادية المهووسون بنظرية المؤامرة. هذه الادعاءات قوبلت بنفي قاطع من وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الذي وصفها بأنها « خيالات لا أساس لها ».
اندلعت الأزمة الأخيرة عقب بث قناة «الجزائر الدولية» لاعترافات شاب جزائري يدعى عيساوي محمد أمين، زعم فيها أن الاستخبارات الفرنسية حاولت تجنيده لتنفيذ مخططات لزعزعة الاستقرار في الجزائر. وسرعان ما تلقّف النظام هذه الادعاءات، فاستدعى السفير الفرنسي ستيفان روماتيه إلى مقر وزارة الخارجية، حيث وصف الإعلام الجزائري الخطوة بأنها «تحذير شديد اللهجة».
لكن المثير للاهتمام أن فرنسا لم تُعر هذه الاتهامات اهتماما يُذكر، بل أبدت موقفا هادئا ومتماسكا، مؤكدة على رغبتها في الحفاظ على العلاقات الثنائية رغم هذا التوتر. الرسالة كانت واضحة: الادعاءات الجزائرية لا تستحق عناء الرد، وهو ما زاد من إحراج النظام الجزائري.
أكدت وسائل إعلام جزائرية، نقلا عن مصادر دبلوماسية وصفتها بـ«الموثوقة»، أنه جرى استدعاء السفير الفرنسي إلى مقر وزارة الشؤون الخارجية بالجزائر العاصمة، الأسبوع الماضي، موضحة أن الغرض من هذا الاستدعاء هو إبلاغه « الاستنكار الشديد للسلطات الجزائرية العليا إزاء الاستفزازات العديدة والأعمال العدائية الموجهة للجزائر من طرف فرنسا ».
واعتبرت الصحيفة الحكومية « المجاهد » استدعاء السفير روماتيه بمثابة « تحذير شديد اللهجة »، ويأتي في أعقاب الكشف عن « تورط أجهزة الاستخبارات الفرنسية في حملة تجنيد إرهابيين سابقين في الجزائر لأغراض زعزعة الاستقرار ».
ومن بين « الإرهابيين » وفق الصحيفة، الجزائري عيساوي محمد أمين البالغ من العمر 35 عاما، والذي بثت مؤخرا قناة الجزائر الدولية التلفزيونية ما قالت إنها اعترافات له حول « مؤامرة دبّرتها الاستخبارات الفرنسية »، فيما لم تذكر الصحيفة تفاصيل عن أسماء أخرى.
ونفى وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، المزاعم التي دفعت الجزائر إلى استدعاء السفير الفرنسي، ستيفان روماتيه، على خلفية اتهامات وجّهها جهادي جزائري سابق في سوريا، زاعما تورط المخابرات الفرنسية في مؤامرة تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر.
وخلال مقابلة مع إذاعة «فرانس-إنتر» الفرنسية، أكد بارو استدعاء السفير الفرنسي من قبل وزارة الخارجية الجزائرية، معبّرا عن أسفه لهذه الخطوة التي وصفها بأنها « غير مبررة ». وأبدى دعمه الكامل للسفير روماتيه في مواجهة هذا الإجراء الدبلوماسي الجزائري.
وبلهجة حازمة، وصف الوزير الفرنسي الاتهامات المتداولة في وسائل الإعلام الجزائرية بأنها « لا أساس لها من الصحة ومحض خيال ». وأكد بارو أن باريس حريصة على الحفاظ على العلاقات الثنائية مع الجزائر، مشيرا إلى أن المصالح المشتركة بين البلدين ستظل قائمة، رغم التوترات الدبلوماسية.
وكعادتها في التأجيج والتصعيد، لم تتردد وسائل الإعلام الجزائرية الموالية للنظام في صب الزيت على النار، حيث وصفت ما حدث بـ«الأعمال العدائية» و«الابتزاز».
وأكدت الصحف الجزائرية الرسمية أن استدعاء السفير الفرنسي كان « تحذيرا شديد اللهجة »، في خطوة تعكس محاولات الجزائر لفرض روايتها في سياق يشهد تراجعا كبيرا لنفوذها الدبلوماسي.
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها النظام الجزائري إلى استدعاء السفراء كوسيلة للضغط. فقد تكررت هذه السياسة مع عدد من الدول، أبرزها إسبانيا، عندما أعلنت دعمها لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وكذلك مع فرنسا بعد أن أعلنت باريس موقفا مشابها.
لكن ما يميز هذه الجولة من التوتر مع فرنسا هو حدة الخطاب الجزائري، حيث وصفت وزارة الخارجية الجزائرية تصرفات فرنسا بأنها « أعمال عدائية » و »ابتزاز غير مقبول »، في مشهد يعكس غيابا واضحا لأي مساع دبلوماسية رشيدة.
يبدو أن النظام الجزائري يعيش حالة من « البحث عن عدو خارجي »، في محاولة لتبرير فشله الداخلي. فبدلا من مواجهة أزماته الاقتصادية والاجتماعية، يلجأ النظام إلى افتعال معارك دبلوماسية، مستعينا بخطاب المؤامرة.
غير أن فرنسا، على عكس الجزائر، لم تصعد الموقف بل التزمت سياسة « التجاهل الهادئ ». وزير الخارجية الفرنسي عبّر عن أسفه لاستدعاء السفير، مؤكدا في الوقت ذاته رغبة بلاده في الحفاظ على علاقات ثنائية مستقرة، لكنه لم يعطِ هذه الأزمة زخما إعلاميا، وهو ما زاد من حالة الإحباط داخل النظام الجزائري.
هذا الموقف الفرنسي، الذي يبدو باردا، أثار استياء النظام الجزائري، الذي كان يأمل أن ترد باريس بانفعال يعيد الاعتبار له. لكن سياسة باريس هذه جاءت رسالة واضحة: « لن نرد على اتهامات لا أساس لها من الصحة ».
تأتي هذه التوترات في وقت يعاني فيه النظام الجزائري من عزلة دبلوماسية غير مسبوقة. فمنذ أن أعربت فرنسا عن دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية، تصاعدت حدة الخلافات بين البلدين، ما أدى إلى تعطيل عدد من آليات التعاون الثنائي. هذه العزلة ليست سوى انعكاس لسياسات النظام الجزائري التي تعتمد على التصعيد كوسيلة للرد على التحديات، بدل البحث عن حلول دبلوماسية بنّاءة.
وبينما يتحدث النظام الجزائري عن مؤامرات خارجية مزعومة، يتجاهل حقيقة أن أزماته الداخلية والخارجية هي نتيجة سياساته. فالاعتماد على لغة الاتهامات والتصعيد لم يثمر سوى عن مزيد من العزلة، خصوصا في ظل تراجع مكانة الجزائر إقليميا أمام صعود الدور المغربي في القضايا الإقليمية والدولية.
وفي هذا الصدد، نقلت جريدة « الشرق الأوسط » عن صحافي جزائري مقيم بفرنسا قوله: «لم تصل العلاقات بين باريس والجزائر إلى حافة القطيعة كما هي الآن. لقد غطيت الجزائر، وما زلت، تحت 6 رؤساء: جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، و(الراحل) عبد العزيز بوتفليقة وعبد المجيد تبون، وعرفت العديد من السفراء من كلا الجانبين، ولم أرَ قَطّ تصعيدا من هذا النوع. لقد تم قطع جميع الروابط، ولا يبدو لي أن هناك في أي من الجانبين، سبلا حكيمة للعمل على التهدئة».
وهكذا وصلت العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى أسوأ حالاتها منذ عقود. فمن جهة، ألغيت زيارات كانت مقررة للرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس بسبب خلافات عميقة. ومن جهة أخرى، تعرّض النظام الجزائري لضغوط دولية بسبب قضايا داخلية، مثل اعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، وهو ما أثار موجة من الانتقادات في الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية.
ويعكس التوتر الجزائري الفرنسي أزمة أعمق للنظام العسكري، الذي يبدو أنه بات يعتمد على نظرية المؤامرة كذريعة للتغطية على إخفاقاته. هذا النهج لم يفلح سوى في تعزيز صورة نظام يعاني من انفصام بين طموحاته وخياراته السياسية. بينما تواصل فرنسا استراتيجيتها الهادئة، تُظهر الجزائر نفسها كدولة تطارد أشباحا وتفتقر إلى رؤية واضحة للخروج من عزلتها.
وفي مقابل هذا التراجع الجزائري، يبرز المغرب كفاعل إقليمي يحظى بدعم دولي متزايد. هذا التفوق المغربي في المشهد الإقليمي يضع النظام الجزائري في موقف حرج، حيث بات غير قادر على مواكبة التحولات الدولية، مكتفيا بالخطابات العدائية ونظريات المؤامرة.