24 ساعة
تحت الاضواء الكاشفة
أراء وكتاب
بانوراما
عبد الكريم برشيد : الجدل حول فيلم ”الزين اللي فيك” مغلوط وغير برئ
في هذا الحوار يقدم الكاتب المغربي والفنان المسرحي وجهة نظره حول فيلم نبيل عيوش”الزين اللي فيك”، كما يتطرق إلى الجدل الدائر في المغرب حول حرية الفن والإبداع، فضلا عن رأيه في توجه المخرجين السينمائيين المغاربة إلى الاشتغال على مواضيع تخاطب غرائز الجمهور والمتلقي، بدل السمو بأفكاره وقيمه، حيت يرى صاحب النظرية الاحتفالية أن ” أكبر مما يريده أو لا يريده المخرجون، وأكبر مما يريده المنتجون في السينما أو في المسرح”، مبرزا أن “الجميع اليوم محكوم بما يريده الوقت، أو بما يريده المتحكمون في الوقت، والذين لا يمكن أن نراهم أو أن نعرفهم، وهناك اليوم مناخ ثقافي عام يميل إلى الغرائز الدنيا، ويميل إلى السهولة وإلى الإسفاف”
وفيما يلي نص الحوار:
س:أعاد فيلم نبيل عيوش ( الزين اللي فيك) الجدل حول حرية الفن والإبداع، في نظركم ما حدود الحرية في الفن والإبداع في نظركم؟
ج:أرى أن هذا الجدل مغلوط من أساسه، وأنه غير بريء أيضا، وذلك لأنه يناقش البديهيات والمسلمات أولا، لأنه يقرأ الفني والإبداعي بعين السياسي وبحسابات الحزبي ثانيا، ولأنه يخوض في موضوع الفن والحرية من غير أن يحدد معنى هذا الفن وهذه الحرية ثالثا، وبهذا يصبح الفن مرادفا للفوضى وللهذيان المجنون، وتتحول هذه الحرية إلى مجرد ورقة فقط، أو إلى مجرد شعار، أو إلى مجرد عنوان خادع ومضلل، ولهذا يكون ضروريا الانطلاق من مناقشة هذه الحرية في ارتباطها بالإنسان أولا، وفي ارتباطها بالمدينة ثانيا، وفي ارتباطها بمناخها الثقافي والحضاري العام، وبالتأكيد فإن حرية الإنسان في المدينة هي غير حرية الوحش في الغاب، فهذا الإنسان المدني محكوم بالقانون وبالأعراف وبالحدود الدينية والمواضعات الاجتماعية، ولهذا تكون حريته الفردية جزء من الحرية الجماعية العامة، وتكون حرية الإبداع في خدمة القيم الإنسانية الكبيرة، وأعتقد أنه لا معنى للحديث عن حرية الإبداع في ظل المجتمعات المستعبدة، ولا معنى لحرية الفن في ظل حياة اجتماعية وسياسية وفكرية معتقلة.
وما يهمني شخصيا ليس هو الأسماء الفاعلة في الفن، ولهذا فإنني لا أنتقد عادة تجربة هذا أو ذلك، ولكنني أقارب الإبداع الأدبي والفني بشكل عام، كما هو هذا الإبداع في واقعه الكائن، وكما ينبغي أن يكون في حقيقته الممكنة الوجود، ولهذا فإنني أركز كثيرا على التمييز بين الفن واللافن، وبين الإبداع واللاإبداع، وبين من يؤصل الظواهر الفنية والإبداعية الحقيقية، وبين من يكتفي فقط بإثارة الغبار والدخان والزوابع الرملية حول أعماله، والتي قد تكون بسيطة وسطحية وفقيرة جماليا وفكريا، ولكنها تروج إعلاميا بشكل كبير وخطير، ولهذا فإن أغلب هذا الحديث عن الفن والحرية هو حديث غير برئ بكل تأكيد، وهو جزء من خطة للترويج الإشهاري فقط، وغدا، عندما تنتهي كل هذه الزوابع الإعلامية، فبالتأكيد ستعود كل تجربة إبداعية إلى حجمها الحقيقي
س: ما الرسالة التي تريد مثل هذه الأفلام تقديمها للمتلقي؟
لو كان لمثل هذه الأعمال رسائل حقيقية لقرءناها، ولما وجدنا أنفسنا نناقش المسائل النظرية والمجردة الكبيرة، من مثل الواقع والواقعية، والفن والأخلاق، والحرية في درجة الإبداع والحرية في درجة العدوان الوحشي على القيم المدنية الجميلة والنبيلة في المجتمع.
إن مثل هذه الأعمال، في تركيزها على تعريف المعروف، وعلى تعرية العاري، وعلى فضح المفضوح، لا تضيف لوعي المتلقي أي شيء، وهي بهذا تنتمي ـ سواء صرحت بذلك أم لم تصرح ـ إلى الإعلام الفضائحي أكثر من انتمائها إلى الفنون الإبداعية الجميلة، ونعرف أن من طبيعة الفن أنه قائم أساسا على الاستعارة، وعلى الإيحاء، وعالى العلامات والإشارات وعلى الرمزيات وعلى شخصنة وتجسيد المعاني الرمزية، وأية معاني يمكن أن تجد في مثل هذه الأعمال، والتي قد يكون فيها ـ أو خلفها ـ ذكاء ترويجي، أو قد تكون فيها شطارة التاجر، ولكنه أبدا لا يمكن ن يكون فيها إبداع المبدع الحقيقي.
س: لماذا أصبح عدد من المخرجين يتوجهون نحو مخاطبة غرائز الجمهور بدل السمو بأفكاره وقيمه؟
يا سيدي، المسألة اليوم أكبر مما يريده أو لا يريده المخرجون، وأكبر مما يريده المنتجون في السينما أو في المسرح أو في مختلف الفنون المشهدية الأخرى، والتي أصبح فيها الشكل أهم من المضمون، وأصبحت فيها الأصباغ والألوان والأضواء خادعة ومضللة، وأصبحت بعض المواضيع الجريئة فيها مجرد مصيدة لتصيد الجمهور الساذج، كما أن الأمر أخطر أيضا مما يريده هذا الجمهور المتلقي، والذي استبدل عقله الواعي، واستبدل ذوقه الشخصي الخاص بغريزة القطيع، فالجميع اليوم محكوم بما يريده الوقت، أو بما يريده المتحكمون في الوقت، والذين لا يمكن أن نراهم أو أن نعرفهم، وهناك اليوم مناخ ثقافي عام يميل إلى الغرائز الدنيا، ويميل إلى السهولة وإلى الإسفاف، وهناك هواء فاسد نتنفسه رغما عنا، وهو يحرض على ( اقتراف) الاتجار والمقايضة والربح السريع في كل شيء، ونعرف أن التجارة الرابحة اليوم هي تجارة الممنوعات والمحرمات، وبهذا تكون المخدرات أغلى من الخبز، ويكون المهربون هم الأغنى بيننا، وهم المتحكمون في رقابنا، وفي هذا المناخ العام تتراجع اليوم أسهم الجمال والخيال، ويصبح المعنى في الفن والأدب والفكر بلا معنى، ويصبح أي جسد يتعرى أهم وأخطر من أي اكتشاف علمي أو أدبي أو فني، ولهذا فإنني ـ شخصيا ـ لا ألوم أي أحد، ولا أجرم أية جهة من الجهات، لأنه من حقنا أن نكره هذا المرض، وأن نكره هذا الوباء العام، ولكننا في المقابل ـ لا يمكن سوى أن نشفق على حال المرضى، ونحن اليوم كلنا مرضى في هذا الزمن الموبوء.
س: وكيف ترون الدعوة إلى عدم الخلط بين الفن والأخلاق، وبعبارة أخرى، عدم انتقاد الأعمال الفنية انطلاقا من محددات ومعايير أخلاقية؟
نعم، الفن هو الجمال، ولكن هذا الجمال المادي لا يمكن أن يصدر إلا عن نفوس وعن أرواح جميلة بكل تأكيد، وهل يمكن أن تجد فنانا حقيقيا يمكن أن يكون فقير الروح وفقير الخيال وفقير الإحساس وفقير الوجدان؟ إن الفنان الحقيقي، مثل أمنا الطبيعة، هو الممتلئ لحد الفيض بالجمال، وهو الغنى غنى داخليا، وبهذا فقد كان هو السخاء المطلق دائما، وكان هو العطاء بلا حدود وبلا شروط، ولأنه هذا الفنان يفيض جمالا وكمالا وخيالا وصورا وأحلاما، فهو يقتسم معنا أشياءه الجميلة والنبيلة، ولكنه عندما يدخل المراحيض، فإنه بالتأكيد لابد أن يدخل وحده، لأن الأشياء الجميلة هي وحدها الجديرة بالاقتسام، ويمكن أن نتساءل، مثل هذا الفعل، في حقيقته ونبله، هل هو الذي نسميه بالأخلاق؟
وهل من المنطقي أن نسمي فعل البحث عن الجمال وإهدائه للناس فعلا أخلاقيا؟
وهل يجوز أن نعطي لهذه الأخلاق النبيلة معنى قدحيا؟
س: هل دور الفن أن ينقل الواقع كما هو أم يجب أن يؤسس لما ينبغي أن يكون؟
شيء مؤكد أن الفن أجمل من الواقع، هكذا هي الحقيقة في معناها الحقيقي، وكل فعل ينقل إليك الوقائع كما وقعت، هو مجرد تقارير بوليسية، أو هو مجرد كتابات وصفية، أو هو مجرد تقارير صحفية، لأن الإبداع الحقيقي لا يعني نقل الموجود والمألوف والمعروف، ولكنه يعني الخلق الجديد بالتأكيد، وهو لا يستنسخ الكائن، بكل تفاصيله وجزئياته، ولكنه يؤسس ما يمكن أن يكون، ففي الواقع نعيش حياتنا الواقعية، ونكون بذلك تحت رحمة الوقائع المادية، ولكننا في الأحلام نتحرر بكل تأكيد، وهل تاريخ الحضارات إلا تاريخ العلماء والشعراء والمفكرين الحالمين والمبدعين؟
في الشعر هناك الضرورة الشعرية، وفي الفن عموما هناك الضرورة الفنية، ولهذا فقد أجاز العرب للشاعر أن يكون أكبر من العروض ومن الأخلاق في معناها العرفي الضيق، ولهذا فإنني أقول اليوم الكلمة التالية بأنه ( يجوز للفنان الحقيقي ما لا يجوز لغيره) و أقول أيضا ( كن فنانا حقيقيا وقل واكتب وابدع ما شئت) وأعتقد أن الفنان الكبير لا يمكن أن يركز على المواضيع الصغيرة أو على القضايا الصغيرة، أو على الأمور الشكلية، أو على الغرائز الحيوانية، ولا يمكن أن يضحي بالجمال الرمزي الخالد في مقابل الربح المادي العابر.
س: أليست هذه الفوضى التي يعيشها المجال الفني من خلال إنتاج الرداءة تؤكد عدم توفر الدولة على استراتيجية في هذا المجال؟
ج: المجال الفني بطبيعته هو الفوضى المنظمة، وهو الهذيان الخلاق، وهو الحرية العاقلة والمسئولة، والدولة لا يمكن أن تكون لها أية علاقة مباشرة بالإبداع إلا في الأنظمة الشمولية، حيث يصبح الفنان موظفا، وحيث للدولة إيديولوجيتها المانعة والقامعة، أما في الدولة الديمقراطية، فإن الفنان يبدع انطلاقا من فكره ومن رؤيته ومن قناعاته الفكرية والسياسية، وكل ذلك في إطار احترام الثوابت والمرجعيات الدينية والوطنية المشتركة، لأن الخيانة ليست وجهة نظر، هذا شيء مؤكد، ولأن الاعتداء الوحشي على المعتقدات والأخلاقيات العامة ليس وجهة نظر أيضا، ولأن هذا المغرب هو دولة المؤسسات، ولأنه يسعى لأن يكون دولة الحق والقانون، فإن على الدولة أن تسهر على توفير الأمن الروحي والفكري للمواطنين، وأن تحمي الحدود الرمزية لهذا الوطن، سواء من خلال احترام لغاته الوطنية، أو من خلال الدفاع عن فنه وعلمه وفكره وعن هويته وعن تراثه المادي واللامادي معا،
س: من المسئول في نظركم؟
كلنا مسئولون، الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والأغلبية الصامتة أيضا، ويمكن ملاحظة أن تلك الأغلبية الصامتة لم تعد صامتة اليوم، وهذا بالتكيد هو ما يؤشر عليه النقاش الحالي حول الفن وحول دوره في المجتمع، ويجب أن تكون كلمة هذه الأغلبية مسموعة، سواء من طرف الفنانين أو من طرف الحكومة ومن طرف كل المؤسسات في هذا الوطن.
وأعتقد أن المطلب العام ـ كما يعكسه النقاش العام حول الفكر والفن واللغة ـ هو الإصرار المشروع في أن يظل هذا المغرب مغربيا، وأن يظل المواطن فيه مغربيا، وهذا حقه الذي لا يمكن أن تنازعه فيه أية جهة، وأن تنظل رؤيته للعالم مغربية أيضا، وأن تظل أخلاقه مغربية، وألا يستبدل هذا المواطن المغربي بالسويدي أو بالفرنسي أو بالدينماركي، وذلك بدعوى الحداثة والانفتاح والتسامح و( الفيزيون)، لأن الحداثة ليست بضاعة تستورد أو تهرب، ولكنها عنوان على الكينونة والهوية، ولهذا فإنه لا وجود لفن حقيقي لا يمثل إنسانه، ولا يعكس لحظته، ولا يتمثل ثقافته وحضارته، ولا ينطق بلغاته، ولا ينطلق من رؤيته الخاصة للوجود.
س: كيف ترون مستقبل الأعمال الفنية، خاصة المسرح والسينما في المغرب؟
المسرح المغربي اليوم في كف عفريت، وهو موجود في منطقة اللاوجود، وأغلب ما يقدم في المسارح يشبه المسرح وما هو بمسرح حقيقي، وهناك إصرار غير طبيعي وغير واقعي على أن يفهم هذا المسرح فهما خاطئا ومغلوطا، وعلى أن يختزل اختزالا يحرمه من روحه ومن جوهره ومن ثوابته ومن أهم وأخطر مقوماته الأساسية، ولقد تحول عند كثير من المسرحيين إلى مجرد دعم وإنتاج وترويج، ولا شيء غير ذلك أو أكثر من ذلك، لقد ضيع هذا المسرح روح المسرح فيه؛ ضيع الفكر والعلم والفن والاجتهاد والرؤية، ضيع السؤال والمسألة، وأصبح مجرد فرجة بصرية فقيرة لحد البؤس، فرجة تخاطب العين وحدها ولا تخاطب العقل، وتخاطب الحواس من غير أن تصل إلى الوجدان وإلى الروح، ورغم أن الساحة زاخرة هذه الأيام والأعوام بالمسرحيات وبالعروض، فإنه لا أحد يمكن أن يتذكر واحدة منها، لأنها كلها متشابهة شكلا وموضوعا، أما المضمون فلا وجود له، وهي ـ في أغلبها ـ تعزف لحنا واحدا، وتدور في حلقة مفرغة واحدة.
أما السينما، وبفضل الدعم السخي للمركز السينمائي المغربي، فإنها تعرف وفرة في الإنتاج وفقرا في الإبداع، والكم فيها يطغى على الكيف، وأرى أن هذا شيء طبيعي جدا، لأن مرحلة التأسيس تتطلب هذا، وبالتأكيد، فإن هذا لا يمنع من وجود أسماء كبيرة في السينما المغربية، ومن وجود تجارب ناضجة تقنيا وفنيا وفكريا وإبداعيا، وفي كل الحالات فإن حاضر السينما في المغرب أحسن حالا من المسرح، وما لم تحققه لحد الآن، فستحققه مستقبلا مع الجيل الجديد من السينمائيين المغاربة ومن الأجيال القادمة.