24 ساعة
تحت الاضواء الكاشفة
أراء وكتاب
بانوراما
لهذا لسنا كلنا «شارلي إيبدو»
عندما نراجع التاريخ ونتساءل من تسبب في الحرب العالمية الأولى، نجد أنه لم يكن مسلما، وعندما نتساءل عمن تسبب في الحرب العالمية الثانية، نجد أنه لم يكن مسلما. كما أنه لم يكن مسلما ذلك الذي أباد أكثر من عشرين مليونا من السكان الأصليين الأستراليين، ولم يكن مسلما ذلك الذي أباد مائة مليون هندي أحمر في أمريكا الشمالية، وخمسين مليون هندي في أمريكا الجنوبية. والذي استعبد أكثر من مليون ونصف مليون إفريقي في الحقول الأمريكية لم يكن مسلما، والذي أطلق القنبلة النووية على هيروشيما ونغازاكي لم يكن مسلما، والذي قتل مليون عراقي لم يكن مسلما.
لذلك لسنا كلنا «شارلي إيبدو»، لأن حرية التعبير في فرنسا نسبية وحماتها يكيلون بمكيالين. ففرنسا هي حرة عندما تزدري الأديان وتسب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسخر من القرآن، لكن حريتها تصبح مقيدة عندما يتعلق الأمر بعرض لديودوني يجعل من مستوطن يهودي موضوعا لسخريته اللاذعة.
فتمنع السلطات العمومية الفرنسية الفنان الساخر من القاعات وتقاطعه وسائل الإعلام وبرامجها التي يتحكم فيها اللوبي الصهيوني، وتنهال عليه الدعاوى القضائية بتهمة السخرية من مآسي اليهود، وكأن مآسي الناس جميعا لا قيمة لها مع ما عاشه اليهود على يد المسيحيين وليس المسلمين.
وعندما تنشر المجلة رسوما مسيئة للذات الإلهية والرسول تعتبر ذلك حرية تعبير، وأما عندما يكتب الرسام «سيني» مقالا يتحدث فيه عن الأصول اليهودية لزوجة ابن ساركوزي وكون هذا الزواج كان بسبب الرغبة في الترقي الطبقي، فإن جزاء الرسام الذي يبلغ ثمانين سنة من العمر يكون هو الطرد من «شارلي إيبدو» بعدما رفض تقديم الاعتذار، قائلا إنه يفضل أن يقطعوا خصيتيه على التنازل والاعتذار. والنتيجة كانت هي متابعته قضائيا بتهمة معاداة السامية، ومحاكمته تجري هذه الأيام في تجاهل تام من طرف الإعلام الفرنسي.
نحن ضد القتل والترهيب والإذاية بسبب الرأي، أيا كان مصدر هذا القتل والترهيب والإذاية، وكما يخرج الملايين للتنديد بقتل مجرمين فرنسيين لمواطنين فرنسيين، يجب أن تكون لهؤلاء الزعماء والمواطنين نفس الغيرة على دماء الأطفال والأمهات في فلسطين وسوريا والعراق وكل الأمكنة التي تسفح فيها دماء الأبرياء. فالدم واحد، ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، فليس ما يجري في عروق اليهود والمسيحيين دماء وما يجري في عروق المسلمين ماء.
علينا كمسلمين أن نفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير محتاج لنا لكي ندافع عنه في الشوارع بالمظاهرات الصاخبة، فالله كفى رسوله العالمين جميعا، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وأحسن طريقة لكي ندافع عن الرسول هي أن نتمثل أخلاقه وسلوكه في حياتنا اليومية.
وكل من يحب الرسول، فعلا لا قولا، عليه أن يراجع سيرته في الكتب التي وثقتها، عندها سيجد أن الرسول الكريم كان حريصا على أن يعامل الجار معاملة راقية، فيسأل عنه إذا غاب ويعوده إذا مرض ويشاركه في سرائه ويعينه في ضرائه ويوثره بخيره وبره، حتى جعل للجار حقاً يكاد يكون به جزءا أصيلاً من عائلته له حق في ميراثه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».
فأين هم جيران اليوم المسلمون من هذه الأخلاق النبوية؟
أما عن أعدائه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يحمل نحوهم ضغينة ولا حقداً ولا يفكر في سوء أو شر أو خديعة، حتى أنه صلى الله عليه وسلم لدقة مشاعره الإنسانية، عندما علم أن قريشاً، وهم أشد المحاربين له، أصابتهم مجاعة وقحط أرسل إليهم خمسمائة جمل محملة بالميرة والطعام لإسعافهم.
ولذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبادئ قوماً قط بحرب، بل كانت حروبه كلها دفاعاً عن النفس، وهو كما أرسلته العناية داعٍ للهداية، وعندما اشتد أذى قومه في عدائهم له، وقال له أصحابه «ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ»، قال صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».
فأين خصوم اليوم من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟
أما «داعش»، التي تدعي الإسلام وتطبيق شرع الله وسنة رسوله، فعليها أن تعلم أنه من شدة رأفته وشفقته صلى الله عليه وسلم بأعدائه، أنه كان يقول لجنده: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَلاَ تَعْصُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَجْبُنُوا، وَلاَ تَهْدِمُوا بَيْعَةً، وَلاَ تُغْرِقُوا نَخْلاً، وَلاَ تُحْرِقُوا زَرْعَاً، وَلاَ تَجْسِدُوا بهيمَةً، وَلاَ تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخَاً كَبِيراً وَلاَ صَبِيَّاً وَلاَ صَغِيراً وَلاَ امْرَأَةً، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامَاً قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْصَوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ».
فقد كان رسول الله يأمر جنده بألا يقاتلوا إلا المقاتلين، ويوصي حتى في المقاتلين ألا يبدؤوهم بالقتال وألا يغدروا، وألا يمثّلوا بجثثهم مثلما يصنع جيش البغدادي اليوم، بل كان يحترم الموتى من أعدائه ويقف لهم، فقد مَرَّتْ به جَنازةٌ فقامَ، فقيلَ له: إنها جَنازةُ يَهوديّ، فقال «أليسَتْ نَفساً»؟
حدث هذا عند المسلمين بفضل نبيهم الكريم قبل قرون من سن معاهدة فيينا حول الحروب ومعاهداتها وقوانينها التي يعتبرها الغرب سبقا ديمقراطيا بعدما ابتعد المسلمون عن روح دينهم.
إن سبب كل هذا التخلف الذي «ترفل» في جحيمه أغلب بلدان المسلمين، هو البعد عن المعاني العميقة للقرآن والأخلاق النبوية.
فالعمل والصدق والأمانة والقول اللين، وحسن الجوار واحترام الآخر والقبول باختلافه والصبر على أذاه، كلها قيم تزدريها الأمة الإسلامية، في مقابل «ارتكاب» قيم الغدر والخيانة واضطهاد المعارضين والعلماء، وتكميم الأفواه وكبح الحريات وحصر الجهاد في شعبة القتال والحرابة، علما أن مراتب الجهاد كثيرة ليس القتال سوى إحداها، فهناك جهاد العقل على التعلم والصبر وتحصيل المدارك والعلوم، وجهاد النفس على تجنب الرشوة والفساد، وجهاد الأمة بكاملها في سبيل الرقي والتقدم، وإكرام مواطنيها واحترام آدميتهم وضمان أمنهم وصحتهم وغذائهم.
فما جدوى أن يهب ملايين المسلمين للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد من يسيء إليه بريشته، في الوقت الذي يسيء هؤلاء المسلمون أنفسهم إلى الرسول، ببعدهم عن حلمه وصبره وأمانته وكل مكارم الأخلاق النبيلة التي جاء ليتممها؟
أنظروا إلى المراتب المخجلة التي تحتلها الدول الإسلامية في لوائح الدول المرتشية والفاسدة والمستبدة، لكي تعرفوا حجم الإساءة.
ما جدوى أن يهب المسلمون لمنع إحراق القرآن من طرف المتطرفين المسيحيين، في الوقت الذي ترفض فيه أمة «اقرأ» أن تطبق الأمر الإلهي الذي يطالبها بأن تقرأ، مفضلة ظلمات الجهل والأمية على نور القراءة والمعرفة؟
قبل أن نطالب الآخرين باحترام رسول الإسلام وكتاب الله، علينا، كمسلمين، أن نقدم المثال في احترام قرآننا ونبينا. وأفضل طريقة للتعبير عن هذا الاحترام هي استحضار قيم الإسلام السمحة في معاملاتنا، فالدين المعاملة، واستحضار سنة الرسول الكريم والاقتداء بها. وعندما نغير سلوكنا الأعوج وننحاز إلى الاستقامة في السلوك كما في القول، فإن نظرة الآخر إلينا ستتغير بالضرورة، بل إنه سيميل إلى الاقتداء بنا واتخاذنا كنموذج يحتذى.
فالله غالب على أمره، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.